دور القضاء في تجسيم مبادئ مجلّة الأحوال الشخصية |
السيّدة إيناس معطّر قاضي المؤسسة بالمحكمة الابتدائية بتونس سيادة رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء،
إنّه لشرف كبير ينالني اليوم بإلقاء محاضرة افتتاح السّنة القضائيّة أمام سيادتكم، في هذه السّنة بالذّات التي تحتفل فيها بلادنا بكلّ نُخوة واعتزاز بمرور خمسين سنة عن الاستقلال وعن صدور مجلّة الأحوال الشخصيّة التي تعتبر رمز تحرير المرأة التونسيّة. إنّ المرأة التونسيّة التي تحرّرت من الممارسات الجائرة والعقليّات المتحجّرة واقتحمت بكلّ شجاعة واقتدار مختلف ميادين الحياة الخاصّة والعامّة تعترف لسيادتكم بالعناية الموصولة التي أوليتموها إليها منذ التّغيير. والقضاء، بوصفه أحد الرّكائز الأساسيّة لدولة القانون التي حرصتم على دعمها وتطويرها، يؤدّي دورا حاسما في إقامة العدل بين المواطنين وتفعيل السّياسة التشريعيّة الحداثية لبلانا وتجسيم مبادئ مجلّة الأحوال الشخصيّة. إنّ مجلّة الأحوال الشخصيّة التي صدرت منذ فجر الاستقلال في 13 أوت 1956 مثّلت الإطار التّشريعي العصري المتميّز الذي أصبح من سمات تونس اليوم، وقد نظّم الأسرة التونسية ونسّق العلاقات القائمة بين أفرادها على أساس العدل والمساواة والحريّة حتى تُعطي للرّابطة الزوجيّة كلّ أهميّتها وللكرامة الفرديّة كلّ حُرمتها وللاستقرار العائلي كلّ ظروف النّجاح والاستمرار. ولقد حظيت الأسرة التونسية منذ 1987 بفضل عنايتكم على مستوى الواقع المعيشي بكلّ الدّعم والرّعاية والتّطوير. فقد هيّأتم لها الظّروف الملائمة لاستقرارها، بعيدا عن الخصاصة والجهل وأشعتم فيها قيم التّعاون والتكافل والتآزر، فاتحين لها آفاق الرُقيّ الاجتماعي والتفتّح الايجابي على ثمار الحضارة العصريّة. ويندرج دعمكم للأسرة في إطار رؤية متطورة واقعيّة وإصلاحية واستشرافية تخدم مختلف الأجيال والفئات في سبيل إرساء مجتمع متوازن، متضامن، متفتّح ومتسامح وهو ما عَبَّرَتْ عنه المبادئ الأساسيّة للإصلاح الدّستوري لسنة 2002 الذي عرضتموه على استفتاء شعبي تمّ قبوله بشبه إجماع منقطع النّظير في تاريخ بلادنا. إنّ تاريخ بلادنا الضّارب في العراقة والأصالة، يسجّل إضافاتكم القيّمة إلى مختلف المحطّات المُضيئة التي تعاقبت عبر العصور مروّجة لفكر تنويري وإصلاحي تميّز بالوسطيّة والاعتدال وإيلاء الاحترام إلى المرأة والعناية بالأسرة بوصفها الخليّة الأساسيّة في المجتمع. فقد احتلت المرأة في هذه البلاد مكانة رفيعة منذ الأميرة "علّيسة" مؤسّسة قرطاج مرورا بالقائدة البربرية "الكاهنة" والجازية الهلالية، وأُروة القيروانيّة، وخديجة بنت الإمام سحنون، وعزيزة عثمانة والسيّدة المنّوبية... وأسماء نسائيّة عديدة أخرى فرضت نفسها في سجلّ الأحداث والانجازات، في مختلف المجالات سواء في دولة الاستقلال أو في دولة التغيير. ولم تكن مكانة المرأة التونسية بمعزل عن الفكر الإصلاحي المُنصف الذي ترجمته عدّة نظريّات ومقاربات مثل الصّداق القيرواني الذي كان يسمح للمرأة بأن تعارض تعدّد الزّوجات وعن كتابات الروّاد والمناصرين لقضيّة تحرير المرأة أمثال بيرم الخامس ومحمد السنوسي وعبد العزيز الثّعالبي ومحمّد العزيز جعيّط وخاصّة المفكّر والمصلح الاجتماعي الطّاهر الحدّاد الذي كتب سنة 1930 "إمرأتنا في الشّريعة والمجتمع" داعيا إلى تحرير المرأة من الجهل والظلم خدمة للأسرة وللمجتمع، وقد لقيت أفكاره كلّ الدّعم من قبل الزّعيم الرّاحل المرحوم الحبيب بورقيبة الذي التزم بقضيّة المرأة وفعل كلّ ما في وسعه لحمايتها وضمان حقوقها. ويٌعتبر تنقيح مجلّة الأحوال الشخصيّة بمقتضى قانون 12 جويلية 1993 الذي صاغ بصفة قانونية الإجراءات الرئاسيّة الواردة في الخطاب المنهجي الذي ألقيتموه يا سيادة الرّئيس يوم 13 أوت 1992، أهمّ تنقيح أُدخل على هذه المجلّة الرّمز التي أصبحت مرجعا نموذجيّا لعديد الدّول العربيّة والإسلامية. إنّ القضاء ما انفكّ يعتزّ بهذا المكسب التّشريعي الوطني ويبذل قصارى جهده في تجسيم مبادئه وتوجيهاته سواء عند قيام الرّابطة الزوجيّة (المبحث الأوّل) أو عند انفصامها (المبحث الثاني).
المبحث الأوّل: دعم القضاء لمبادئ مجلّة الأحوال الشخصيّة عند قيام الرّابطة الزوجيّة
سيادة رئيس الجمهورية، لمّا كانت العلاقة الزوجيّة لا تتأسّس في بلادنا إلاّ بموجب عقد رسمي يُحرّره عدلا إشهاد أو ضابط الحالة المدنيّة فهي ضمان جوهري لكافّة أفراد الأسرة ومنطلق لتبادل الحقوق والواجبات في إطار المودّة والرّحمة والمحبّة والاحترام والمساواة. ولقد دعّمتم هذه المعاني السّامية المستمدّة من ديننا الإسلامي الحنيف ومن تقاليدنا الاجتماعيّة الرّاقية بقيمة عصرية جديدة هي واجب التّعاون بين الزّوجين الذي كرّسه إصلاح 1993 والذي أقام شراكة كاملة وفعليّة بينهما خدمة للأسرة والأطفال. وهو ما يُنتج في المقابل مبدأ مسؤولية مشتركة لكلا الأبوين في تصريف شؤون الأسرة والأبناء. كما كرّستم مبدأ التّضامن العائلي، ليس بين الأبوين والأبناء فحسب، بل بين الأحفاد والأجداد أيضا.
الفقرة أولى: مبدأ المساواة كانت الأسرة التونسيّة قبل الاستقلال تسودها تقاليد موغلة في عدم المساواة بين الزّوجين وبين الأبناء. فقد كان الزّوج يمثّل السّلطة الوحيدة داخل العائلة وما على الزّوجة والأبناء إلاّ الطّاعة والامتثال لأوامره. كما كان تفضيل الذّكور على الإناث واقعا راسخا في الذهنيّات والممارسات الاجتماعية. ولمّا صدرت مجلّة الأحوال الشخصيّة بذلت في إطار سعيها إلى التّوفيق بين الأصالة والحداثة أقصى الجهد لتقليص اللامساواة وتمتيع كلا الجنسين بالحريّة والإنصاف. فقد وضعت عدّة قواعد ثوريّة بالنّسبة إلى ما كان عليه وضع الأسرة والمرأة والطّفل في ذلك الوقت، حيث ألغت حقّ الجبر الذي كان يمارسه الوليّ على منظورته مهما كان عمرها وأعلنت بصفة آمرة أنّ الزّواج لا ينعقد إلاّ برضا الزّوجين. وبذلك أصبح كلّ من الرّجل والمرأة يختار قرينه بكلّ حريّة ورَويّة ومسؤوليّة. كما سعت مجلّة الأحوال الشخصيّة إلى القضاء على ظاهرة زواج الأطفال التي كانت متفشّية قبل الاستقلال خاصّة في الأرياف إذ فرضت سنّا قانونية دنيا لا يجوز مبدئيّا لمن لم يبلغها إبرام عقد زواج وهي سبعة عشر سنة كاملة بالنسبة إلى الفتاة وعشرين سنة كاملة بالنّسبة إلى الفتى. ولقد أذنتم مؤخّرا يا سيادة الرّئيس في خطابكم بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة يوم 13 أوت المنقضي بدعم التوجّه نحو المساواة الكاملة بين الجنسين في هذا الشّأن وذلك بجعل السنّ الدّنيا للزواج بالنّسبة لكليهما ثمانية عشر سنة. واعتماد هذه السنّ التي هي في نفس الوقت أقصى سنّ الطّفولة عملا بمجلّة حماية الطّفل، يُعتبر قضاء نهائيّا على ظاهرة زواج الأطفال في بلادنا. كما منعت مجلّة الأحوال الشخصيّة منذ صدورها على أساس تفسير نيّر وقويم للقرآن الكريم ظاهرة تعدّد الزّوجات منعا مطلقا وأوجبت عقوبة جزائيّة بالسّجن والخطيّة على مُرتكب هذه الجُنحة وشريكه فيها، مع اعتبار الزّواج الثّاني باطلا. وفي ذلك بلا ريب حفظ لكرامة المرأة ولاستقرار الأسرة ومصلحة الأطفال. ويتصدّى القضاء بكلّ حزم إلى كلّ من يتعمّد مخالفة تلك القاعدة التشريعيّة والارتباط بأكثر من قرين واحد سواء كان ذلك بصفة رسمية أو غير رسمية. وإلى جانب ذلك جعلت مجلّة الأحوال الشخصيّة مانع التطليق ثلاثا مانعا مؤبّدا للزّواج بين المطلّقين حتى يقع تفادي كلّ تحيّل على القانون وإلغاء مهزلة التيّاس أو المحلّل الشّرعي التي قاست منها قديما عديد الزّوجات والعائلات في تونس، وماتزال نساء وعائلات أخرى في دول لم تصل بتشريعاتها إلى مستوى مجلّة الأحوال الشخصية تتجرّع ويلاتها السلبيّة. ولقد ارتقت إصلاحات 1993 بمبدأ المساواة إلى درجات أسمى حيث كرّسته بين الرّجل والمرأة في إطار الحقّ في استرداد هدايا الخطبة والزّواج. وحرصت خاصة على منع كلّ نظرة استنقاص إزاء المرأة مطهّرة تشريعنا من الاعتبارات الدونيّة وذلك بتخليص أحكام المهر ممّا كان يشوبها من تقييم مادّي قد يُوحي بدفع مقابل للدّخول بالمرأة. وألغت التّنصيص على واجب الطّاعة الذي كان محمولا على الزّوجة تُجاه زوجها وتعويض ذلك بمبدأ التعاون بين الزّوجين على قدم المساواة وفي كنف الاحترام والتّكامل والشّراكة خدمة للأسرة والأطفال.
الفقرة الثانية: مبدأ الشراكة إنّ هذا المبدأ ينطلق من المساواة ولكنّه يكرّسها بصفة فعليّة وتفاعليّة ناجعة في كلّ ما يتعلّق بالمسائل العائليّة. وهو مبدأ لم تأت به مجلّة الأحوال الشخصية عند صدورها بل أثمر تعديل 1993 بحرص خاص من سيادتكم تقديرا لما بلغته المرأة التونسيّة من مكانة محترمة داخل الأسرة وخارجها ولما أبدته من كفاءة وروح مسؤوليّة جعلتها جديرة بالتّعويل عليها والاطمئنان إلى آرائها وأفعالها. فقد دعّمت تلك الإصلاحات حقوق المرأة في الإطار العائلي بفرض واجب التّعاون بين الزّوجين وتشريك الأمّ في تصريف شؤون أطفالها أثناء قيام الرّابطة الزوجيّة في كلّ ما يتعلّق بالحضانة والولاية وخاصّة فيما يتّصل بدراسة الأطفال وسفرهم وأموالهم. وأصبحت بذلك القرارات المتّخذة داخل الأسرة وليدة تشاور وحوار بين الأبوين ينضمّ إليه الأطفال أحيانا ويُأخذ فيه بعين الاعتبار ما هو راجح منطقيّا وما هو راجع بالمصلحة الجماعيّة على أفراد الوحدة العائليّة. وفي نفس هذا الاتّجاه خصّص المشرّع قواعد صريحة تتعلّق بتشريك الأمّ إلى جانب الأب أو الوليّ في الموافقة على زواج القاصر من أولادها سواء كان ذكرا أو أنثى، بما يكفل مصلحة ذلك القاصر الذي لم يعد مستقبله بيد وليّ أمره وحده بل أضحى نتيجة تفكير ونقاش وحوار بنّاء، وهو ما يُعتبر إقحاما محمودا للأساليب الديمقراطيّة في إيجاد الحلول العائليّة. وحتّى تنهض الزّوجة والأمّ بمسؤوليّتهما الجديدة تقرّر ترشيد من تزوّج دون سنّ الرّشد المدني (عشرين عاما) وذلك بمجرّد إبرام عقد الزّواج حتّى تكون له كامل الأهليّة لتصريف شؤونه وشؤون قرينه وأطفاله دون حاجة لتدخّل الغير. ومن توابع المسؤولية التي تقابل دعم الحقوق والصلاحيّات القانونيّة أنّ الزّوجة أصبحت مُلزمة بالإنفاق وجوبا على العائلة إن كان لها مال. كما أصبحت منذ تنقيح مجلّة الالتزامات والعقود سنة 1995 مسؤولة مدنيّا عن الأفعال الضارّة الصّادرة عمّن كان في حضانتها من أولادها القصّر. وهكذا يتّضح جليّا أنّ مجلّة الأحوال الشخصية، خاصّة من خلال الرّؤية التشريعية الجديدة تكرّس المساواة بين الجنسين إلاّ أنها لا تنحاز إلى جنس دون الآخر، بل تصون حقوق الرّجل بمثل ما تصون حقوق المرأة وتسعى إلى تحقيق مصلحتهما معا دون إهمال المصلحة الفضلى للأطفال والمصلحة العامّة للأسرة والمجتمع، في إطار من العدل والإنصاف والتّضامن.
الفقرة الثالثة: مبدأ التضامن إنّ التضامن الذي نستمدّه من قيمنا الحضارية أصبح قاعدة دستورية في بلادنا. وهو معمول به في مجلّة الأحوال الشخصيّة على عديد الأصعدة. فعلى مستوى العلاقة الزوجيّة يدخل التّضامن في السرّاء والضرّاء في إطار حسن المعاشرة والمعاملة بالمعروف بين الزوجين، كما يبرز في العلاقة بين الأصول والفروع، أي بين الأبوين والأبناء من جهة والأجداد والأحفاد من جهة ثانية. ويندرج حقّ النّفقة في إطار التّضامن العائلي على الصّعيد المادّي. وتعتبر مجلّة الأحوال الشخصيّة الزّوج ملزم بالإنفاق على زوجته منذ الدّخول بها إلى حين انتهاء أمد عدّتها. كما أنّ الزوجة ملزمة بالمساهمة في الإنفاق على الأسرة والأبناء إن كان لها مال حسب ما سبق بيانه. ويستحقّ الأبناء الإنفاق عليهم إلى أن يصبحوا قادرين على التكسّب الذاتي. وفي غير تلك الوضعية يستحقّ الإبن الإنفاق عليه إلى حين بلوغ سنّ الرّشد أو بلوغ خمس وعشرين سنة إن كان يزاول التّعليم. وتبقى البنت مستحقّة للنّفقة ما لم يتوفّر لها الكسب إلى أن تجب نفقتها على زوجها، في حين يستمرّ الإنفاق على الأبناء المعوقين العاجزين عن الكسب بقطع النّظر عن سنّهم. إنّ هذه الأبعاد التضامنيّة في مجلّة الأحوال الشخصيّة يحرص القضاة على تجسيمها على أفضل وجه خصوصا وأنها تندرج في إطار الرّؤية السياسيّة الرّشيدة التي جادت في بلادنا بصندوق التّضامن الوطني 26-26 والصّندوق الوطني للتّشغيل 21-21 والبنك التّونسي للتّضامن وصندوق ضمان النّفقة وجراية الطّلاق... حتّى أنّ مبادرة سيادتكم باقتراح إحداث صندوق عالمي للتّضامن قد لقيت كلّ التّرحيب والدّعم من قبل بقيّة الدّول المُنظوية تحت لواء منظّمة الأمم المتّحدة. وعلى مستوى العلاقات الشخصية بين أفراد العائلة ومن منطلق حرص الدّولة الموصول على تفعيل التّضامن بين مختلف أفرادها وأجيالها، أعلنتم يا سيادة الرّئيس في برنامجكم المستقبلي لتونس الغد (2004-2009) الإقرار بحقّ الأجداد في زيارة الأحفاد. وقد صدر قانون 06 مارس 2006 في هذا الخصوص ليضيف الفصل 66 مكرّر إلى مجلّة الأحوال الشخصيّة وهو يتضمّن أنّه إذا توفّي أحد والدي المحضون فلجدّيه ممارسة حقّ الزّيارة. ويراعي قاضي الأسرة في ذلك مصلحة المحضون ويبتّ في طلب الزّيارة طبقا للإجراءات الاستعجاليّة. وفي نفس هذا الاتّجاه، وبموجب نفس البرنامج المستقبلي، أذنتم بتخصيص فضاء للأسرة والطّفولة في كلّ محكمة. وهو إجراء سمح بإحداث فضاء خاص بالمسائل العائلية يصون كرامة المتقاضين وأسرارهم الشخصيّة، ويندرج في إطار حرصكم الدّائم على إيجاد تخصّص قضائي يجعل القضاء عادلا وناجزا وناجعا أكثر. وتكتسي هذه الإضافات أهميّة بالغة لأنّها تأتي بحلول تشريعيّة وقضائية واضحة لبعض الإشكاليّات الإنسانية التي طرحت على أنظار القضاء وبذل في شأنها مجهودات اجتهاديّة لم تكن يسيرة خاصّة عند تعقّد الوقائع والملابسات تبعا لانفصام الرابطة الزوجيّة بوفاة أحد الأبوين أو بطلاقهما.
المبحث الثاني : دعم القضاء لمبادئ مجلّة الأحوال الشخصية عند انفصام الرابطة الزوجيّة
سيادة رئيس الجمهورية، إنّ دوام الرّابطة الزوجية ضمان لاستقرار الأسرة وعامل لحفظ أواصرها، ولكن قد تعرض حالات واقعية تؤدي أحيانا إلى تصدّع تلك الرابطة وانفصامها بالطّلاق أو إلى حدوث طارئ ينتج عنه وفاة أحد الزوجين. ويَطرح انحلال الزواج، سواء كان بالطّلاق أو بالوفاة اشكاليات عديدة يتصدّى القضاء لحلّها وتنظيمها. ولئن قنّنت مجلّة الأحوال الشخصية الطّلاق الذي لم يعد خاضعا لإرادة الزوج وحده بتأكيدها على صبغته القضائية (الفقرة الأولى)، فإنّ التّنقيح الذي أدخل على المجلّة سنة 1993 ساهم في مزيد صيانة حقوق الزوجين في هذا الشّأن، ومنح الأسرة فرصا أوفر لتدارك ما قد يعتري العلاقة الزوجية من تصدّع وخلاف بإحداثه خطّة قاضي الأسرة ودعمه إجراءات المصالحة في الطّلاق (الفقرة الثانية). ولمّا كان دور القضاء هو إيصال الحقوق إلى أصحابها وحماية مصالحهم، فقد دأبت المحاكم التونسية على تقليص سلبيّات الطّلاق وتتبّع آثاره من خلال الإشراف القضائي على حقوق الأطراف وخاصّة الأبناء ضحيّة انحلال الأسرة وتباعد الأبوين (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى: مبدأ الصبغة القضائية للطلاق أوجبت مجلّة الأحوال الشخصية منذ صدورها تدخّل السلطة القضائية للإشراف على حلّ عقد الزّواج، فكرّست مبدأ التقاضي في الطلاق لما يكتسيه من أبعاد حمائية ويتيحه من ضمانات قضائية. فعلا، إنّ مبدأ التقاضي في الطلاق يكفل الحماية والاستقرار للوحدة الأسرية ويضمن حقوق الزوجة ويحفظ مصلحة الأطفال. فقد كانت الأسرة التونسية قبل صدور مجلة الأحوال الشخصية عرضة للانحلال والتفكك بحسب رغبة الزوج ونزواته وانفعالاته حيث كان يستطيع بإرادة منفردة إنشاء الطلاق. ولمّا أصبح إيقاع الطّلاق متوقّفا على تدخل المحكمة، تمّ القضاء بصفة نهائية على الطلاق الارتجالي والعشوائي والمتسرّع لما فيه من تعسف وعدم تقدير للتّبعات السلبية للطلاق على الأسرة والأبناء. وأصبحت الزوجة تتمتع بنفس حقوق زوجها فيما يتعلق بشروط الطلاق وإجراءاته وآثاره، إذ خوّل المشرّع لكليهما اللجوء إلى القضاء قصد طلب الطلاق سواء بموجب الاتفاق أو للضرر الذي لحق أحدهما من الآخر أو بناء على إرادة فردية. وفيما يخص الأبناء لا شك أن تكريس مبدأ التقاضي في الطلاق يحمي حقوقهم بفضل إرساء رقابة قضائية دقيقة على متعلقات حياتهم اليومية من حضانة وسكنى ونفقة وزيارة، للحفاظ على استقرارهم النفسي ونموهم السليم. وتحقيقا لنبل الغايات المنشودة من وراء تكريس هذا المبدأ، حرصت المحاكم التونسية ولا تزال على تبنى مواقف صارمة في بعض قضايا طلب إكساء الأحكام الأجنبية المتصلة بالأحوال الشخصية الصيغة التنفيذية. فقد تمّ في إحدى القضايا على سبيل المثال رفض الدعوى لمنافاتها النظام العام التونسي على أساس أنّ الطلاق الواقع بإحدى الدول الإسلامية اقتصر على تلقي شهادة شاهدين على أن الزوج طلّق زوجته دون صدور حكم في الطلاق عن هيئة قضائية. وفي قضية أخرى، استند فيها الطلب إلى حجّة طلاق بالخلع تمّ تحريرها لدى عدلي إشهاد أكّدت المحكمة أنّ الطّلاق يكون مخالفا للنظام العام التونسي عند صدوره عن غير سلطة قضائية مختصة. وبذلك فهو باطل ولا يُؤخذ به. ويحرص القضاء على تأكيد الصبغة القضائية الوجوبية للطلاق حفاظا على حقوق كافة الأطراف إذ لكلّ من الزوجين الحق في طلب إيقاع الطلاق إلى جانب الحق في تبليغ رأيه في خصوص ذلك أمام القضاء. ولا مجال عندئذ لإهدار حقّ الزوجة في الدّفاع عن مصالحها ومصالح أبنائها القصّر، ذلك أنها تسجّل حضورها لدى المحكمة أكثر من مرة خلال المحاولات الصلحية والجلسات الحكمية لتبدي موقفها من طلب الطلاق إن لم يكن صادرا عنها، أو لتبرّر طلبها إيقاعه، أو لتؤكّد مصادقتها عليه عند الاتّفاق مع الزّوج على إيقاعه. وأكّدت محكمة التعقيب في هذا السّياق أنّ حق التونسية في طلب الطلاق لا نقاش فيه ولو كانت متزوجة بأجنبي إذ أنه لا يمكن أن تحرم مواطنة تونسية أبرمت كلّ شكليات زواجها في بلادها بسبب أن الزوج طرف أجنبي يطالب بتطبيق قانونه الشخصي الذي لا يسمح للمرأة أصلا بأن تقوم بدعوى الطلاق. كما رفضت المحكمة الابتدائية بتونس طلب إكساء حكم طلاق صادر عن محكمة ولاية فلوريدا الأمريكية بناء على أنّ صدوره كان بصفة نهائية وهو ما يتعارض مع مبدأ التقاضي على درجتين في مادّة الطلاق الذي يكرّسه النّظام القانوني التونسي، إلى جانب مبدأ محاولة الصّلح وجوبا في كلّ دعاوى الطّلاق.
الفقرة الثانية : مبدأ المصالحة في الطلاق لا يعتبر مفهوم الصلح في الشؤون المتصلة بالعلاقات الزوجية أمرا مستحدثا بل إنّه متجذّر في أصالتنا الإسلامية. فلقد ورد بالقرآن الكريم قوله تعالى: "وإن خفتم شقاقا بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفّق الله بينهما إنّ الله كان عليما خبيرا". وهو ما تبنّاه المشرّع التونسي بالفصل 25 من مجلة الأحوال الشخصية. وفي هذا الصدد، يمثّل تنقيح الفصل 32 من م.أ.ش بموجب قانون جويلية 1993 تجديدا هاما على مستوى تطور نظرة المشرّع لإجراءات الطلاق بإحداثه خطّة قاضي الأسرة، هذا القاضي المتخصّص الذي يبذل قصارى جهده في محاولة الصلح خاصة عند وجود أبناء. ولا شكّ في أنّ حضور الزوجين معا خلال الجلسة الصلحية يهيّئ الظرف الملائم لأن يكون تدخل قاضي الأسرة أكثر نجاعة وفاعلية. ولكن حتى في صورة تخلف المطلوب عن الحضور بتلك الجلسة، فإنّ قاضي الأسرة يؤجّل النّظر في القضية ويستعين بمن يراه لاستدعاء المعني بالأمر شخصيا أو لمعرفة مقرّه الحقيقي واستدعائه منه. وجدير بالملاحظة في هذا الخصوص أنّ القضاء ما فتئ يساند التشريع في حرصه على بلوغ الصلح بين الزوجين. ففي حالات كثيرة تستوفي فيها قضية الطلاق المقدّمة من طرف أحد الزوجين مرحلتها الصلحية وتستكمل فيها الإجراءات، تقرر المحكمة إرجاعها لتلك المرحلة قصد إجراء محاولة صلحية "إضافية" إذا ما تبيّن لها ظهور بوادر جديّة في ذلك الاتجاه لا سيّما عند وجود الأبناء، إذ يكون قاضي الأسرة ملزما بإجراء ثلاث جلسات صلحية إذا وجد ابن قاصر أو أكثر. ويتدخّل بالتوجيه والنّصح لغاية تفادي إيقاع الطلاق والمحافظة على استمرار الأسرة. ولكنه قد يخيب في مسعاه لأسباب عديدة تختلف باختلاف الحالات التي تعرض عليه فتفشل المحاولة الصلحية. ومع ذلك فإن دور قاضي الأسرة يتواصل في جانب آخر ألا وهو اتخاذ القرارات الفورية. إنّ قاضي الأسرة مدعوّ منذ أوّل جلسة صلحية لاتخاذ القرارات الفورية المتعلقة بالحضانة والزيارة والنفقة والسكنى ولو من تلقاء نفسه لما في تلك القرارات من حماية لأفراد الأسرة وتحديد لحقوق أطراف النّزاع وواجباتهم. ولا شكّ في أنّ اتخاذ هذه القرارات لا يحول دون مواصلة محاولات الصلح من قبل القاضي نفسه أو من قبل أفراد العائلة الموسّعة. وقد أفرز عمل القضاء حالات يتمّ فيها الصلح بين الزوجين بناء على اتّفاق خارج إطار المحكمة، غير أنّ القاضي يباركه ويتبنّاه. وفي هذا الاتّجاه اعتبر المشرّع أنّ أبواب الصلح على مصراعيها إلى آخر مراحل التقاضي مادام التعقيب يوقف التنفيذ في قضايا الطلاق. وأقرّت محكمة التعقيب في ذات الاتجاه حق الزوج في أن يتراجع في طلب الطلاق الذي كان تقدّم به حتّى وإن كان ذلك لدى الطور التعقيبي للقضية معتبرة أنه طالما ثبت أنّ الزوجين قد اتفقا على مواصلة الحياة الزوجية وحرّرا كتب صلح بينهما، فإنّ المحكمة لا يسعها إلاّ إمضاء ذلك والمصادقة عليه. وعلاوة على تكرار المحاولة الصلحية، فقد اقتضى تنقيح 1993 احترام فترة تأمّل تدوم شهرين قبل طور المرافعة في قضية الطلاق، حرصا على تروي كلا الزوجين من موقفه والتبصّر في خطورة آثار الطّلاق، وجسامة المسؤولية فيما هو مقدم عليه. ولا ينحصر التدخل القضائي في خصوص المحاولات الصلحية وحدها بل يتواصل من خلال تحديد حكم الطلاق لحقوق الطرفين المتداعيين وواجباتهما إزاء أولادهما بحيث يكرس إشرافا قضائيا ناجعا على مرحلة ما بعد الطلاق.
الفقرة الثالثة: مبدأ الإشراف القضائي على آثار الطلاق عندما تقرّر المحكمة إيقاع الطلاق بين الزوجين، فإنها ملزمة وجوبا بضبط جميع آثار ذلك الطلاق، حيث تقرّر قيمة التعويض الذي يستحقه المتضرر من الزوجين جرّاء الطلاق. كما تحدّد الوسائل المتأكّدة موضوع القرارات الفورية الصادرة عن قاضي الأسرة. ففي خصوص التعويض تقضي المحكمة لمن تضرّر من الزّوجين بتعويض مالي يدفعه الطّرف الآخر. ومن مميّزات التّشريع التّونسي في هذا الخصوص، أنّه يعوّض للمطلّقة بجراية عمريّة تُدفع لها مباشرة بعد انقضاء عدّتها مشاهرة على قدر ما اعتادته من العيش في ظلّ الحياة الزوجيّة بما في ذلك المسكن. وهذه الجراية قابلة للمراجعة ارتفاعا وانخفاضا بحسب ما يطرأ على حياة تلك المرأة من متغيّرات. وتستمرّ إلى حين وفاتها أو تغيّر وضعها بزواج جديد أو بحصولها عمّا تكون معه في غنى عن تلك الجراية. وهذه الجراية تصبح دينا على التّركة في حالة وفاة المفارق وتُصفّى عندئذ بالتراضي مع الورثة أو عن طريق القضاء بتسديد مبلغها دفعة واحدة مع مراعاة سنّها في ذلك التاريخ. كلّ ذلك ما لم تخيّر المطلّقة منذ البداية التعويض لها عن الضّرر المادي في شكل رأس مال جملي يسند لها دفعة واحدة. ومن الإشكاليات الواقعية التي طرحت في خصوص آثار الطلاق والتي يتصدّى لها القضاء المختصّ بكلّ عناية وحزم، يمكن أن نذكر حالات غير قليلة تمّ فيها اختطاف المحضون أو عدم تقديمه لمن له حقّ زيارته. كما يمكن أن نذكر الصعوبات الكبيرة التي تُلاقيها الحاضنة أحيانا في خصوص حقّها في السكنى، وهي الإشكالية التي تصدّيتم لها مشكورين يا سيادة الرّئيس حين أعلنتم في خطابكم يوم 13 أوت 2006 عزمكم على صيانة الحقّ في السكن المحكوم به لفائدة الأمّ الحاضنة في الحالات التي ضبطها القانون، حتى يقع منع الحيل التي يمكن أن يلجأ إليها البعض لحرمان تلك الأمّ مع أبنائها من هذا الحق بدون موجب. ولذلك أذنتم بإعداد مشروع قانون يحدّد الإجراءات الكفيلة بمنع هذه الممارسات المضرّة بحقوق المرأة والطّفل ويضمن الحماية اللازمة للحقّ في السّكن المقرّر من المحكمة لفائدة الحاضنة والمحضون عند توتّر العلاقات الزوجين أو حصول الطّلاق.
سيادة رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، إنّ ما تحقّق في تونس في مجال تطوير تشريع الأحوال الشخصية ونجاعة العمل القضائي يعتبر من الانجازات الرائدة لعهد التغيير ومن المكاسب المحققة للشعب التونسي. وما تزال الإرادة السياسية الإصلاحية متواصلة بفضل عنايتكم لمزيد دعم حقوق المرأة والطّفل والأسرة وتأكيدها نصّا وممارسة، يوما بعد يوم. فقد تصدّيتم يا سيادة الرئيس بكلّ قوّة وحسم منذ سنة 1988 إلى من عاودهم الحنين إلى عهود التخلّف والظلم والرجعيّة، وأكّدتم انحيازكم الكامل إلى كبار الروّاد التونسيّين من المصلحين والزّعماء السياسيّين، وأقدمتم على إدخال إصلاحات عميقة غيّرت الرّؤية التشريعيّة والإجراءات القضائية في مسائل الأحوال الشخصية، وأَثْرَتْهَا بقواعد إضافية أكّدت ريادة تونس على الصّعيد الإقليمي وحتّى الدّولي في كلّ ما يتعلّق بحقوق المرأة خاصّة وبالحقوق الإنسانية بصفة عامّة. ولم تقفوا عند ذلك الحدّ، بل ارتقيتم بمبادئ الأحوال الشخصية إلى مرتبة دستوريّة منذ سنة 1997 حتّى تكون هذه المبادئ الجوهرية في منأى عن كلّ الخلافات والمزايدات والنّكسات. إنّ التّاريخ سيسجّل لكم يا سيادة الرّئيس فضل الجهود التي بذلتموها في خدمة مصالح شعبنا في مختلف الميادين وخاصة فيما يتعلّق بالأمور الحياتية اليوميّة والمسائل العائلية من منطلق حسّكم الإنساني النّبيل وقربكم الشّديد من مشاغل الشّعب وطموحاته.
|